المعلم في يوم عيده
كتبت هبة الحسين عن تجربتها بعد استقرار أمرها في مجال التعليم الذي وجدت
فيه ثغراً مهمّاً من ثغور الأمة ، مستحضرة ذكرياتها كتلميذة على مقاعد الدراسة، مسلطة
الضوء على جزء من واقع المعلم الذي يعيشه كل يوم، متحدثة بلسان المعلم الإنسان قبل
كل شيء. إليكم المقال:
تقول هبة:
تربّيت في بيت يكثر فيه الحديث عن الطلبة والعلم والمدرسة، حتى ورّثَنا
أبي شيئاً من حبّه للتعليم والتعلّم. مرت الأيام وكان يفترَض بي اليوم أن أكون مهندسة
منذ سنوات، لكن شاء الله تعالى غير ذلك، فقررتُ الاقتراب من التعليم أكثر وما زلتُ
أغوص في أعماقه.
قلتُ لأستاذتي مرة : كلما تعمقّتُ أكثر، ازداد خوفي وعظُمَت الأمانة في
رقبتي، ليس سهلاً أن تأخذي دور الأم والأب مع أرواح طاهرة، لا يطّلع على مدى إحسانكِ
إليهم إلا الله، ولا تعلمين أي ندبة سيحملها أحدهم في نفسه بسبب خطأ صغير أو هفوة عابرة
! فابتسمتْ وقالتْ : وهذا المطلوب تماماً!
عندما تقدمتُ إلى المدرسة كمعلّمة، سألتني المشرفة بعد حديث طويل عما أريده
في الختام، قلت لها أريد أن أستكشف المدرسة بنفسي كي آنسَ بالمكان، كنتُ أحتاج إلى
الاطمئنان اتجاه المكان الذي سيقتسم جزءاً منّي مع أهلي ومحيطي، وبالفعل كان ما أردت،
ثم خضتُ التحدي باسم الله تعالى .
في البداية كان هدفي بناء شيء ما في قلوب طلّابي أستيقظ من أجله كل صباح،
إلى جانب المحفّز المادي (الراتب) مدركة تماماً بأنه في اللحظة التي سيكون فيها الدافع
(الوحيد) لاستيقاظي صباحاً هو الأجر المادي، فسأترك التعليم لأنه سيتحول إلى مهنة بالنسبة
لي، وهذا ما لا تطيقه نفسي، على الأقل إلى الآن .
أزعم أني نجحتُ في ذلك قليلاً، ورأيتُ من الثمار أطيبها ولله الحمد. يكفيني
من التعليم أن ألقى الله عزوجل بإنسان واحد على الأقل - كما قالت الدكتورة هبة رؤوف
عزت - يقول :لقد جعلتِني إنساناً أفضل! أن تخرج بإنسان كهذا وسط عالم تربوي غالباً
ما يختصر الإنسان بأرقام في البطاقة المدرسية آخر السنة فقط، وعالم أكبر يفصل النجاح
عن القيمة ويقيّمه بناء على الوصول إلى الهدف بغض النظر عن مدى قذارة الوسيلة، لإنجازٌ كبير.
بالأمس كنت أمرّ على مذكرات قديمة لي، فوجدتني قد كتبت عن معلماتي كلاماً
لطيفاً، بالطبع لم أكن معجبة بتنظيمهنّ وضبطهنّ للصّف ولا بطريقة إيصال المعلومة وإنهاء
المنهج، ما حُفر بذاكرتي هو مواقفهنّ الإنسانية معي، مراعاتهنّ لظرف صعب كنتُ أمر به،
احترامهنّ لبشريّتي وضعفي ، هذا ما خرجتُ به من ست سنوات في المرحلة الابتدائية!
ماذا يريد المعلم إلى جانب الحياة الكريمة؟
إذا أردتَ أن تحكمَ على مدرسة ما، فانظر إلى طريقة التعاطي مع المعلم فيها،
المعلم إنسان له احتياجات نفسية كغيره، يحبّ التقدير ويبذل جهداً مضاعفاً عندما يجد
من يصفق له ويثني على إتقانه، يكره المواقف التي تشعِره بأنّه آلة، يحتاج المعلم إلى
مساحة آمنة يلجأ لها وقت الأزمات، تقلّ فيها أمراض القلوب وكثرة القيل والقال، بالإضافة
إلى الوضوح في التعاطي، يصعب عليه العودة إلى بيته وفي قلبه خذلان من أحد زملائه أو
مشرفيه، يتطلع المعلم الجيّد إلى التعاون والعدل في كل شيء ويرجو دائماً أن يلمسه من أهل القرار أيضاً.
يرغب المعلم أن يُنظَر إلى هفواته ضمن الدائرة الإنسانية للخطأ، لا أن
يُنظَر للخطأ من زاوية العصمة والمثالية، الكمال لله وحده ولكلٍ إنسان حقّ في مساحة
صغيرة تتجلى فيها الطبيعة البشرية التي خلقها الله بعيداً عن النظرة الملائكية. يفضّل
المعلم أن يوجَّه ويُنصَح سراً، بعيداً عن أعين زملائه واستعراض العضلات الفكرية والتعليمية
على حسابه، فمسيرة العلم لا تتوقف عند سن معين وكلنا ذلك المحتاج للنقد البنّاء من
حين إلى آخر.
من الجميل أن يكون المعلم من ضمن أهداف المدرسة إلى جانب الارتقاء بالمتعلمين،
أن تكون المدرسة المؤثر الإيجابي في سلوكيات المعلم خارج وداخل الصّف، أن يخرج منها
بذاتٍ مختلفة، جذّابة اجتماعياً، أكثر ألقاً حين دخلها، أن لا يتوقف عن عدّ الفوائد
التي جناها من تجربته، أن تلمح بريق عينيه وهو يتحدث عن الاحتواء والاحترام والقيمة
التي أضافها إلى رصيد مسيرته.
فلنكفّ عن جعل المعلم شمعة تحترق لتضيء درب الأجيال، لم أسمع بمجتمع انتفع
بذواتٍ منهكةٍ محترقة! نريد من المعلم أن يكون شمساً تضيء لنفسها أولاً، كي تشعّ على
من حولها.
بقلم : هبة الحسين
إقرأ ايضا:
تعليقات
إرسال تعليق